التعليم العتيق بالمغرب النشأة والتحديات
لكن مع تطور المجتمع، وانتشار التعليم النظامي الجديد، لم يجد الفقيه مكانا له داخل مجتمع يقوده خريجو كلية الآداب والحقوق، حتى بعض المناصب الدينية، أصبح يتولاها خريجو كلية الشريعة وأصول الدين المتفرعة بدورها عن التعليم النظامي، لذلك فقد بدأ كثير من الشبان الذين يدرسون العلوم الشرعية، يؤمون المشرق العربي، مثل: سوريا، ومصر، والسعودية، حيث كانت هذه الدول تستقبلهم، وتقوم باختبارهم لتعطيهم مستويات دراسية معينة، ومن ثم يكملون دراستهم فيها حتى يحصلوا على شهادة تعيد لهم الاعتبار، ليعودوا بعد ذلك وهم يحملون شواهد كغيرهم من أبناء التعليم النظامي.
لكن مع بداية القرن العشرين، انتبه المغرب إلى خطورة هؤلاء الطلبة الذين يعودون متشبعين بثقافة مشرقية، قد لا تنسجم مع البيئة المغربية المتسامحة، منذ ذاك الحين وبالضبط في سنة 2002، أصدر الملك محمد السادس ظهيرا شريفا أعطى فيه الانطلاقة لنوع جديد من التعليم، عُرف بالتعليم العتيق، كان هدفه تحويل تلك المدارس التي كان يترأسها الشيوخ في القرى والبوادي، إلى مراكز تعليمية تابعة للدولة، تقوم الدولة بالاشراف عليها، ومراقبة الكتب التي تدرس فيها، ومع ذلك إضافة بعض المواد الأخرى مثل التاريخ والجغرافيا، والفلسفة، واللغات الأجنية، وبعض المواد العلمية الأخرى، مثل الرياضيات وعلوم الأحياء، وغيرها من المواد، حتى تسهم في إخراج رجل دين ملم بالتغيرات الكونية التي يعيشها العالم من حوله، وليس فقيهًا يلازم محرابه ويتحدث في التقوى، وبر الوالدين، وطاعة أولياء الأمور.
إذا تطلعنا اليوم إلى ثمار هذا التعليم بعد مرور أكثر من عقد من الزمان، على إنشائه، قد نقر بأن الدولة نجحت فيما كانت تصبوا إليه من وراء إنشاء هذا التعليم، في الجانب الخفي الذي كان يهمها!، باعتبار أن هذا التعليم قلل من نسبة الطلبة المتوجهين للمشرق، لكن إذا نظرنا إليه هل خرَّج لنا العالِم المنشود فعلاً؟ هنا نُصاب بالإحباط وأقول هذا بكل أسف، فدون التغلغل في معرفة أسباب إخفاقات هذا التعليم، عبر تتبع كل شاردة وفاردة فيه، إلا أننا ولو بلمحة بسيطة ندرك الكثير من الأمور التي تجعلنا نقتنع بفشل هذا النوع من التعليم، والتي كانت بادية منذ نشأته!
من غريب الأمور، أننا نجد جل الذين يرأسون المناصب الدينية في الأوطان العربية، هم رجال تلقوا تكوينهم العلمي، خارج الوطن العربي، بعضهم خريج الجامعات الفرنسية |
ربما أولى هذه الإخفاقات، هي اعتماد هذا التعليم على كتب تعود إلى أزمنة تراجع العلوم في البلدان الإسلامية، حيث تجد أن جل الكتب تكرس ثقافة الحفظ والاستظهار، وتحويل الطالب إلى آلة لاستظهار ما حفظه، وبذلك فهو يساهم بقصد أو بغير قصد في إعادة حقبة لا زال المسلمون يذوقون ويلاتها إلى الآن، هذا بالاضافة إلى وجود كم هائل من المواد التي يجب أن يلم بها الطالب، مع جهل تام لكل المعايير التي تحدد قدرة استيعاب الطلبة، حتى إنه وطيلة أسبوع كامل، تجد أن مدة الحصص في اليوم الواحد أكثر من سبع ساعات!، وبذلك فلا الطالب حصل تلك العلوم التي تتطلب جهدا ووقتا لاستظهارها، ولا هو حصل هذه العلوم الحديثة!
وهذا يرجع إلى غياب لجنة متخصصة في وضع المقررات، كل ما هناك أن الوزارة المعنية، تكلف جمعا من الأساتذة، مع العلم أن هؤلاء جلهم درس في المساجد على الطريقة التقليدية، فيبدأ كل واحد منهم يملي رأيه حسب قناعاته الشخصية، دون مراعات للواقع وما يقتضيه، بمعنى أن الجيل الذي تربى على الحفظ والاستظهار لن يفكر إلا في إنشاء جيل مثله.
في ظل هذا التخبط نتساءل، إلى متى سنظل نخبط خبط عشواء، لا نحن نفهم تراثنا الأصيل الذي أرسى قواعد العلوم التي كانت سببا في نهضة أمم، ونحن بقينا نتشبث بقشور ثقافة بالية، ولا نحن تمسكنا بعلوم هؤلاء الذين طوروا تلك العلوم واستافدوا منها، لا نحن مع أولئك ولا مع هؤلاء، بل نحن بين ذا وذاك مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
جيل بعد جيل يضيع، ورؤوس جهلاء تتحكم في الأمور، يخدعهم منصبهم ويغويهم طغيانهم وغرورهم، لا هم يفعلون شيئا، ولا هم ينحازون عن تلك الكراسي المتشبثين فيها، واقعنا يزداد تدهورا، وأجيالنا تضيع، ونحن في كل يوم نتساءل من يا ترى سينقدنا من هذا الواقع المذل؟
بل ومن غريب الأمور، أننا نجد جل الذين يرأسون المناصب الدينية في الأوطان العربية، هم رجال تلقوا تكوينهم العلمي، خارج الوطن العربي، بعضهم خريج الجامعات الفرنسية، وآخر البريطانية وغيرها، وهنا نتساءل، إذا كنا موقنين بعدم جدوى هذا التراث فلم نحشوا به أذهان هؤلاء الأطفال! بدعوى الحفاظ عليه، بدل تلقينهم العلوم التي تنير ذهنهم، وتؤهلهم لواقع يعيشونه، حتى إن خريجي هذا التعليم عند تخرجهم يصبحون أشبه بمرضى انفصام الشخصية، نصف يصبوا إلى ماض تشبع بثقافته، ونصف يريد أن يعيش واقعا مفروضا عليه.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.